
الكنيسة >
الكنيسة ودورها في المجتمع
ق. بيتر عادل
6/13/22 - ٥ دقيقة قراءة
عندما نتكلم عن الكنيسة ودورها بكل تأكيد نحن أمام قضية هامة ومُتسعة، ولكننا في هذا المقال نريد أن نتكلم بشكل خاص عَن دور الكنيسة في المجتمع، واهتمام الكنيسة بالعمل الاجتماعي، وإلى أي مدى يكون هذا هو دور الكنيسة، وما هي الأسس اللاهوتيّة لهذا الدور.
لذا سنقوم في هذا المقال بتقديم عرض مُختصر للتيارات المتنوعة حول دور الكنيسة في المجتمع، ثمّ نقدم الآراء المختلفة للإجابة على تساؤل هل الأولويّة للكرازة والخدمة الروحيّة أم للتنمية والعمل الاجتماعي؟ ثمّ نُقدّم بعد ذلك بعض الأسس اللاهوتيّة للعمل الاجتماعي للكنيسة.
أولًا: التيارات الأساسيّة في المسيحيّة لعلاقة الكنيسة بالمجتمع
التيار الأول: تيار أصولي مُنغلق
يرى هذا التيار إن العالم كله وُضع في الشرير، وأن كل العالم والخليقة مصيرها الزوال والفناء، لذا يجب على الكنيسة أن تنعزل عن المجتمع تمامًا، وتتجنب الانخراط فيه والاشتباك مع قضياه، لأن هذا سيضر بالكنيسة ويجعلها تنزلق إلى مبادئ عالميّة لا تتسق مع مبادئ الملكوت، ومِن ثمّ نجد العداء للفنون والثقافة وعدم الاهتمام بالشأن العام، وعدم الاهتمام بنوعيّة حياة البشر ومحاولة الارتقاء بها، لأنه لا يوجد سوى الهلاك لهذا العالم.
وبكل تأكيد يرى هذا التيار أن دور الكنيسة الوحيد هو الدور الروحي فقط، وكل مسؤوليتها هي الكرازة الروحيّة وخلاص النفوس لضمان الحياة الأبديّة بعد الموت.
التيار الثاني: تيار ليبرالي مُتحرر
يرى هذا التيار إن العالم هو خليقة الله الصالحة، وأن عتق الخليقة يبدأ من هنا والآن، لذا يجب على الكنيسة أن تذوب في المجتمع، وتشتبك مع قضياه، وذلك لأن الله يُعلن عن نفسه في الفنون والثقافة، ولا يوجد ضرر على الكنيسة مِن كونها جزء مِن المجتمع لأنها بالفعل كذلك، وتسعى الكنيسة للنهوض بنوعيّة حياة الناس مِن كل الجوانب.
يرى هذا التيار أن دور الكنيسة الوحيد هو الدور الاجتماعي فقط، وكل مسؤوليتها هي الإصلاح والتنميّة الاجتماعيّة.
التيار الثالث: تيار مُحافظ مُستنير
يتفق هذا التيار مع التيار الأول الأصولي في إن العالم بالفعل وُضع في الشرير، ولكنه يتفق مع التيار الثاني المُتحرر أنه خليقة الله أيضًا. ويرى أنه على الكنيسة أن تندمج في قضايا المجتمع وتشتبك مع قضياه، وتجتهد أن تُقدم الإصلاح والتنميّة في كل الجوانب، ولكن في الوقت نفسه عليها أن تنفصل عن فساده، وتعمل كل ذلك بقيم الملكوت وهي مُتمسكة بإيمانها وبحق الإنجيل.
وبذلك يكون دور الكنيسة هو دور مزدوج؛ فهو دور "روحي اجتماعي" ومسؤوليتها هي الكرازة الروحيّة والتنميّة الاجتماعيّة في آنٍ واحد. فالإنجيل رسالة شاملة لإنسان شامل في كل الجوانب الروحيّة والاجتماعيّة.
وإن كُنا نرجح التيار الثالث لأننا نرى أنه الأكثر اتزانًا - مِن وجهة نظر الكاتب –، وإذا كان دور الكنيسة هو بالفعل دور مزدوج "روحي اجتماعي" سيكون السؤال المطروح علينا الآن هو:
لمَن الأولويّة هل الكرازة الروحيّة أم التنميّة الاجتماعيّة؟
ثانيًا: لمَن الأولويّة الكرازة الروحيّة أم التنميّة الاجتماعيّة؟
يوجد داخل التيار المُحافظ المُستنير ثلاثة آراء حول أولويّة الكرازة أم التنميّة، وسنقوم بعرض الثلاث آراء لكَ عزيزي القارئ وهم:
الرأي الأول:
يرى أن الأولويّة للكرازة الروحيّة، حيُث أن الغاية الأسمى هي خلاص النفوس مِن الخطية، فلا يوجد فائدة مِن التطوير الاجتماعي في حال هلاك الشخص روحيًا. فهذا الرأي يرى الخدمة الاجتماعيّة في المرتبة الثانية.
الرأي الثاني:
يرى أن الأولويّة للعمل الاجتماعي، حيث أنه كيف يُمكن وعظ الناس عن أمور روحيّة وهم تحت وطأة الفقر والجهل والمرض، فلا نبدأ بالوعظ عن الرحمة والخلاص، ولكن نبدأ بتقديم خدمة عمليّة للخلاص من الفقر والجهل والمرض. وهذا الرأي يجعل العمل الاجتماعي في المرتبة الأولى.
الرأي الثالث:
يرى أن الأولويّة لكلاهمّا، ف على الكنيسة تقديم رسالة الخلاص الروحيّة، بنفس القدر الذي تُقدِم فيه العمل الاجتماعي. وقد يكون هُناك أولويّة جزئيّة بحسب السياق. فهذا الرأي لا يعطي أولويّة لخدمة عن الأخرى، ويقول بما أنه إنجيل شامل لإنسان شامل، فلابد وأن تسعى الكنيسة بكل أدواتها لتقديم الخدمتين على السواء. وفي حالة تقدُّم خدمة عن الأخرى- لأي أسباب عمليّة -، فهذا يكون أمر سياقي جدًا، وعلى الكنيسة العودة متى أمكنها لممارسة الدورين معًا.
ثالثًا: بعض الأسس اللاهوتيّة للدور المزدوج للكنيسة
1- التكامل بين لاهوت الخلق والفداء
لاهوت الخلق يؤكد على أن الله خلق الكون حسن، وأن كل البشر هم أبنائه، ويجعلنا ننظر للبيئة وللحيوانات وجميع المخلوقات بنظرة احترام وتقدير، لأنها ببساطة صنع وإبداع الله القدير، فالله بذاته هو الذي صمّم كل الخليقة، وهي مشروعه الذي وضع فيه فكره وإرادته، واستخدم فيه قدرته وقوته.
ومن الناحية الأخرى لاهوت الفداء يؤكد على أن هناك فساد دخل الخليقة، وأن البشر فسدوا بسبب الاختيار الحر بالاستقلال عن الله. وأن الله لم يترك خليقته الذي أبدع فيها تهلك بسبب الخطية، ولكن بمطلق نعمته خلّصَ وفدى الخليقة كلها بشكل كامل في المسيح يسوع.
لذا علينا نحن كمسيحين الاهتمام بالخليقة والحفاظ على البيئة، والرفق بالحيوان، واحترام كل البشر بغض النظر عَن اللون أو الدين أو العرق أو الجنس، وهذا هو صلب العمل التنموي الاجتماعي الذي نرى أنه رسالة أصيلة للكنيسة.
وفي نفس الوقت لابد وأن نقدم فداء المسيح، ورسالة الخلاص لكل الخليقة كما أوصانا الرّب يسوع قائلًا: " اكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا"، وهذا هو صلب الكرازة الروحيّة التي نرى أيضًا أنها دور أصيل للكنيسة. وبالتالي يكون الدوران مهمان ولازمان للكنيسة.
2- لاهوت التجسد
كان قرار التجسد قرار في منتهى الابداع والجرأة، فنحن نرى في التجسد أن الله في المسيح يسوع قرر أن ينخرط ويندمج داخل الخليقة ووسط البشر، ويشتبك مع قضايا المجتمع في عصره. فهو لم يقف بعيدًا ولم يُنَظِّر نظريات، ولكنه جاء بطريقة عملية جدًا، وكان مُتداخل مع البشر في واقعهم ووجودهم المُنكسر، كما نرى في التجسد الله مُحترم للخليقة، وللإنسان، وحتى للجسد. فلم يتواصل لله مع الإنسان بطريقة روحية هلاميّة، بل في تاريخه وجسده وواقعه، دون فصل بين الروحي والمادي.
لذلك علينا وأن نتبنى نفس التوجه في التعامل مع الخليقة والبشر، فليس دورنا أن ننظر نظرة تعالي للبشر، ولا أن ننظر لهم نظريات، بل أن نتدخل معهم، ومع واقعهم سواء الروحي أو المادي دون فصل.
3- عدم الفصل بين الجسدي والروحي
بناء على التكامل بين لاهوت الخلق ولاهوت الفداء، وفي ضوء لاهوت التجسد، نرى أنه لا يوجد فصل بين الروحي والجسدي، وبين المادي والمعنوي، وبين الزمني والأبدي، وبين الأرضي والسماوي. فهذا الفصل ليس فصل مسيحي، بل هو غريب عن الرؤية المسيحيّة للوجود، فالمسيحية المُرتكزة على يسوع المسيح ترى تكامل ودمج واتحاد بين أبعاد الوجود الماديّة والمعنويّة.
فالخدمة المسيحية يجب وأن تُحقق هذا التكامل والدمج بين الأدوار الروحيّة والاجتماعيّة معًا. لأن الفصل ليس من أساس الإيمان المسيحي، ولقد أعتبر هرطقة في المسيحية المبكرة، كما تُعرف بالغنوصية التي ترى أن المادة شر ولا يجب الربط بين الروحي والجسدي.
4- خدمة المسيح المزدوجة
نرى في خدمة الرّب يسوع، أروع نموذج لما نريد أن نؤكد عليه في الدور المزدوج لإرساليّة الكنيسة. فنحن نجد في خدمته هو شخصيًا، كرازة روحية مباشرة، ونرى خدمة إنسانيّة بحتة، ونرى أيضًا في كثير من الأحيان الاثنين معًا. فالرّب يسوع لم يكن فقط كارز روحي، ولم يكن فقط مُصلح اجتماعي، بل كان يُمارس الدورين بطريقة تبادلية وبرشاقة وانسجام. فهو كان يكرز بالتوبة وبشارة الملكوت لخلاص النفوس، وأيضًا كان يثور على المفاهيم المجتمعيّة/الدينيّة الخاطئة ليحقق إصلاح حقيقي للمجتمع.
ونحن نرى إن كنا نُريد أن نتبع أثر خطوات السيد - له المجد - علينا وأن نجتهد في أن نخطو خطوات جادة في طريق خدمته المزدوج، الذي يهتم بالإنسان في بُعديه الروحي والمادي دون فصل.
5- بُعدي الخطية والخلاص
الخطية بحسب الكتاب المقدّس لها بُعدان بُعد فردي وبُعد جماعي، فيوجد تقسيم لاهوتي للخطية بحسب بُعدها سواء الفردي أو الجماعي/المجتمعي. فمثلًا كل الأمور الشخصية التي تعوق علاقة الفرد بالله، هي تُعتبر خطايا فرديّة لأنها ذنوب شخصية. ولكن كل الأمور التي تعوق علاقة البشر كجماعة عن الله، فهي تُعتبر خطايا مُجتمعية لأنها ذنوب جماعية. فأمور مثل: الفقر والجهل والمرض، تُسمى بالخطايا المجتمعيّة. وإذا كان هُناك بُعدان للخطية "فردي ومجتمعي" بالتالي يوجد للخلاص بُعدان أيضًا، بُعد فردي من الذنوب الشخصية، وبُعد مجتمعي من الذنوب المجتمعية مثل: الفقر والجهل والمرض.
وهذا يلفت النظر إلى دور الكنيسة في الخدمة المجتمعية، والتي بها تشترك في تتميم الخلاص المجتمعي، الذي يحرر البشر من الخطايا التي تعوقهم كجماعة من الانطلاق نحو الخبر السار، ومِن ثمّ الحياة الأفضل.
6- الهوية المُزدوجة للكنيسة
الكنيسة مِن المنظور اللاهوتي لها هويّة مزدوجة، فهي جسد المسيح الروحي مِن جانب، ومن الجانب الأخر هي مؤسسة داخل المجتمع أيضًا. وبالتالي فهي كيان سماوي وأرضي في نفس الوقت. فطبيعة الكنيسة ليست بها فصل - كما ذكرنا – بل هناك اتحاد في هويتها بين الأبدي والزمني، والروحي والاجتماعي.
وبالتالي يكون للكنيسة أفراد وجماعة، دور روحي أبدي مرتبط بخلاص النفوس مِن الخطية والانفصال عن الله. وأيضًا دور زمني مجتمعي مرتبط بخلاص المجتمع مِن مشكلاته التي تُكبله عن الانطلاق والابداع نحو الحياة الأفضل، وهذان الدوران يُكمل أحدهما الآخر.
7- المفهوم العميق لاستجابة الصلاة
البعض يتعامل مع الصلاة باعتبارها صفقة لتبادل المصالح مع الله، أو انها تعويذة سحريّة لتحقيق أمور فائقة للطبيعة. ولكن بحسب الفهم المُستنير لكلمة الله، الصلاة في مفهومها العميق، هي علاقة تواصل مع الله، وليست فقط قائمة مِن الطلبات. وبالطبع يوجد طرق عديدة عند الله لاستجابة الطلبات، فما أعجب أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، ولكن نحن في كثير من الأحيان جزء من الاستجابة، فالله يعمل معنا ومن خلالنا، فمنذ خلق الإنسان والله جعله شريك معه، في الإثمار وإعمار الأرض.
لذا فصلاتنا هي صلاة مسؤولة، فنحن يجب علينا أن نصلي ونعمل في آنٍ واحد، فمثلًا إذا كنا نصلي من أجل الفقراء، لابد وأن نعمل من أجل تحسين حياة الفقراء، وإلا ستكون صلاتنا ناقصة. وهذا يؤكد بشدة على الدور المُزدوج لإرساليّة الكنيسة، التي يجب وأن يكون لها تفاعل حقيقي مع احتياجات المجتمع التي تعيش فيه، وأيضًا تُصلي من أجل خلاصه روحيًا.
وأخيرًا عزيزي القارئ أضع أمامك المادة رقم 38، التي تتكلم عن النظام الاجتماعي، مِن إقرار إيماننا الإنجيلي بدستور الكنيسة الإنجيليّة بمصر، وهي تنص على:
مادة 38- في النظام الاجتماعي
نؤمن بأنَّ التدبير الإلهي لأجل الجنس البشري يتضمن نظامًا اجتماعيًا يتفق مع مبادئ يسوع المسيح وروحه. وأنَّ نصرة ملكوت الله في صورته الحاضرة يراد بها ليس فقط تأسيسه في قلوب الناس أفرادًا بل أيضًا إيجاد عالم يسود فيه البر والإخاء. وأنَّ من أهم واجبات الكنيسة أنْ تؤدي شهادة صريحة بأنَّ مبادئ المحبة والعدل المسيحية يجب أن تظهر ظهورًا بارزًا في كل العلاقات شخصية كانت، أو صناعية، أو تجارية، أو مدنية، أو قومية، أو دولية.
ومن هذا النص نرى تأكيد عقيدة الكنيسة على الدور المزدوج للكنيسة، فالكنيسة لها إرساليّة عظمى سواء في البُعد الكرازي الروحي أو التنموي المجتمعي.
المراجع
حبيب، صموئيل. الإنجيل والحضارة. القاهرة: دار الثقافة، 1997.
________. الصلاة حوار يُغير الحياة. القاهرة: دار الثقافة، 1997.
________. الكنيسة والتنمية. القاهرة: دار الثقافة، 1991.
_______. لاهوت التحرير. القاهرة: دار الثقافة، 1991.
زكي، أندريه. التنمية من الإحسان إلى مجتمع المرونة والمتانة. القاهرة: دار الثقافة، 2022.
________. من لاهوت الشفافية إلى لاهوت العيش المشترك. القاهرة: دار الثقافة، 2021.
________. المسيح والنقد التاريخي. إعادة طبع. القاهرة: دار الثقافة، 2017.
إقرار الإيمان الإنجيلي، دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر.